التمهيد
بعد أن تحققت أن خبر العدل يفيد العلم، و أن أحاديث الآحاد التي تقبلتها الأمة فعمل بها الأكثر، و اشتغل بعضهم بتأويل البعض منها، لئلا ترد عليهم قد أفادتهم العلم اليقيني، فإن هذا الباب يعتبر فضلة.
فإن العلم تابع للعلم، لما عرف من وجوب العمل بكل ما تحقق صدوره عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
و لكن المتكلمين عقدوا هذا الباب بناء على أنها ظنية، و سردوا فيه الأقوال و الأدلة العقلية و النقلية، فلم يكن بد من بيان حال تلك المذاهب، و تمحيص ما أوردوا لها من الأدلة، و إزالة شبه من خالف ما هو الواجب، و قد نعيد بعض الأدلة التي سبقت لبيان دلالتها، و الجواب عما أوردوا عليها.
دلالة العقل على العمل بخبر الواحد
كان السلف يعتمدون الأدلة السمعية، ويرجعون إليها دائماً، ويحكمونها في الخلاف بينهم، ولا يلتفتون إلى موافقتها للعقول أو مخالفتها.
ولقد أنكروا علم الكلام عند ظهوره، وحذروا منه، لما فيه من الإعراض عن الأدلة السمعية، ولما يسببه من الحيرة وكثرة التقلب.
ولم أطلع للسلف على قول في حكم التعبد بخبر الواحد، ولا في دلالة العقل عليه أو عدم دلالته.
وهذا يدلنا منهم على أمرين:
1- أنهم لا يفرقون بين المتواتر والآحاد من الأخبار، بل إن صحة الخبر لديهم هي السبب الوحيد في قبوله، وتحتم اتباعه، والإنكار بشدة على من خالفه.
2- أنهم لم يتدخلوا بعقولهم في أحكام الشريعة، بل إن الدليل السمعي -ولو آحاداً- هو المقدم عندهم على ما يتوهمه العقل، وما ذاك إلا لسلامة فطرهم عن الزيغ والشبه، وفي ذلك دليل على أن السمع الصحيح لا يخالف العقل الصريح أبداً أما أهل الكلام فقد ابتدعوا أدلة عقلية، وردوا لأجلها الأدلة السمعية، وعند التحقيق يعلم أن أدلتهم خيالات لا تثبت على حال، فأحدهم يجزم بأن العقل يوجب هذا، بينما الآخر يجزم بأنه يحرمه.
ومثال ذلك: ما قالوه في هذا الباب فإن فيه لهم ثلاثة أقوال:
القول الأول: منع التعبد بخبر الواحد عقلاً:
وهذا قول بعض المعتزلة، كالجبائي وابن علية والأصم، وجماعة من أهل الكلام. ولهم على ذلك شبه:
1- منها: أن التعبد به يؤدي إلى تحليل الحرام، وتحريم الحلال، لإمكان كونه كذباً في الباطن، ففي العمل به مفسدة تخالف مقتضى القواعد الشرعية فلا بد أن يقيم الله على كل حكم برهاناً قطعياً (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)(الأنفال:42) أما أن يحيلهم على دليل ظني يجوز العقل خطأه فلا، لما يترتب عليه من قلب الحقائق، واستباحة المحظورات، مما هو خلاف حكمة الشارع.
وهذا الدليل ليس عقلياً محضاً، بل مما أخذه العقل من الشرع. فيقال:
(أ) يبطل اللزوم على مذهب المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب؛ حيث أنه لا حلال ولا حرام في نفس الأمر، وإنما ذلك يظهر بعد الاجتهاد، فعليه لا يلزم محذور إذا اعتمد المجتهد على خبر يمكن أن يكون كذباً في نفس الأمر.
فإن العمدة اجتهاده، وقد أصاب كما يصيب من خالفه باجتهاد آخر وهلم جرا.
أما على مذهب الجمهور في أن المصيب واحد -فإنما يلزم تحريم الحلال وعكسه أن لو قيل بالقطع بموجبه، أما أن يقال بالظن- الذي هو ما يقدره المجتهد- مع تجويز خلافه.
فإنه لا يلزم منه مخالفة حكم الله.
(ب) أن إمكان كذبه يضعف بتوفر شروط قبوله المعروفة، فيكون العمل به مستنداً إلى يقين أو ظن غالب.
(ج) المعارضة بما وافقوا عليه من قبول الشهادة والفتيا والحكم والظن في تحري القبلة، فإن الشهادة قد يقطع بصدقها كشهادة الأنبياء، وقد يظن كشهادة غيرهم، والكل يعمل به، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه مقطوع بصحته غالباً، فألحق بذلك حكم سائر الحكام وفتوى المجتهدين، وكذلك القبلة يقطع بها عند معاينة الكعبة فألحق به ظنها بالاجتهاد.
فهكذا يلحق بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المقطوع به خبر كل ثقة يظن صدقه، فلا فرق بينه وبين الصور قبله.
(د) وأجاب الآمدي وغيره بأن دليلهم مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله، وهو غير مسلم.
ولكن هذا الجواب غير سديد، فإن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد على الصحيح، والله تعالى كتب على نفسه الرحمة، من غير أن يوجب عليه أحد شيئاً، وإنما لتمام حكمته وإحسانه بالعباد كانت أفعاله وأوامره ونواهيه في غاية المناسبة، وكان مما ينافي حكمته تكليف الخلق بما لا فائدة فيه، أو بما هو ضرر محض.
2- ومنها قولهم: يلزم منه اجتماع الضدين كما لو روي خبر في تحريم هذه العين وآخر في تحليلها، واستويا في استيفاء شروط القبول، فالعمل بهما معاً محال، وبأحدهما ترجيح بلا مرجح.
فيقال: سبق أن أشرنا إلى أن كل دليلين ثبتت صحتهما فوجود المعارضة بينهما نسبية غالباً وأن الأئمة تمكنوا من الجمع بين ما أوهم التعارض وتخريج كل دليل على وجه صحيح، أو جعلوه من باب التوسعة، وتجويز الأمرين معاً، أو جعلوا المتأخر ناسخاً للمتقدم بعد معرفة التاريخ إلى آخر ما تقدم.
3- ومنها: لو جاز التعبد بخبر الواحد لجاز قبول خبر من ادعى النبوة بلا معجزة فيقال: سبق الجواب عن هذه الشبهة وبيان أن من ادعى النبوة جاء بأمر مستغرب، وفيما جاء به نقل الناس عن كثير من عاداتهم إلى ما لم يألفوه، ثم ما في دعواه من إمكان كونه طالب رئاسة أو حظ لنفسه، فاحتاج إلى تأييد قوله بمعجزة، لئلا يتقول أحد على الله، وليس كذلك من نقل شرعاً عن غيره مقتدياً بسائر الرواة.
4- ومنها: أنه قد اتفق على عدم قبول الآحاد في الأصول، فدل على امتناعها في الفروع، فلا فرق بينهما، فيقال: هذا الاتفاق متوهم وقد ذكرنا أن السلف لا يفرقون في قبولها بين ما يتعلق بالأصول أو بالفروع، وقد أجاب المتكلمون هنا بأنه قد اتفق على أن الأصل لابد له من دليل قطعي، بخلاف العمل فيكتفى له بالظني، هكذا أجابوا لكن عملهم غير مطرد على ما ذكروا، ثم يطالبون بالفرق، والصحيح هو ما أشرنا إليه من القبول في الكل.
5- ومنها قولهم: لو جاز التعبد به لجاز نقل القرآن المتعبد بتلاواته بقراءة الآحاد، وهو خلاف الإجماع، فيقال لما كان القرآن يعتبر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، لزم أن يكون مما يقطع بنقله، بخلاف الأحكام الشرعية، فتثبت بالظن الغالب.
ثم إن الصحيح إن شاء الله أن القراءة إذا صح سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووافقت رسم المصحف قبلت، وإن لم يقرأ بها أحد من السبعة أو العشرة.
القول الثاني: أن العقل يوجب العمل بخبر الواحد:
وهذا قول ابن سريج والقفال من الأشاعرة، وأبي الحسين البصري من المعتزلة وغيرهم، وحكي عن الإمام أحمد، وقاله أبو الخطاب.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1- أن في ترك العمل به تعطيلاً لأكثر الوقائع عن الدليل، لقلة الأدلة المقطوع بها بالنسبة للحوادث، وحكمة الله تقتضي أن كل حادثة تكون معروفة الحكم بدليل يجب قبوله، وأكثر الوقائع إن أدلتها آحاد، فيجب قبولها.
2- أنه من المعلوم عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وليس في إمكانه مشافهة الجميع، ولا أن يبعث إلى كل جهة عدداً يبلغون حد التواتر، فلم يبق إلا الاكتفاء بالآحاد، فلو لم يجب على الأمة العلم بأخبارهم لم يحصل التبليغ، ولم يكن لبعثهم فائدة.
3- أن ظن صدق الراوي يرجح وجود الحكم الذي يترتب على تركه العقاب، والعاقل يحتاط بامتثال هذا الأمر، ليسلم من هذا العقاب ولو مظنوناً.
وأيضاً لما كان العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معلوماً من الدين بالضرورة في الجملة، وكانت هذه الأخبار قد جاءت تفصيلاً لتلك الجملة، لما في فعله مصلحة، وفي تركه مضرة، كانت مما تثير الخوف في القلب، فوجب العمل بمفادها عند ترجح صدقها، تحصناً وتحرزاً، من المخاوف، هذا ملخص حججهم، وهي كما ترى في وجاهتها.
وقد تكلف الآمدي وغيره ردها بأجوبة جدلية، نشير إلى مخلصها مع مناقشتها:
قالوا: أما الحجة الأولى فإنه لا يلزم من ترك خبر الواحد تعطل الوقائع عن الأحكام، فإن المفتي إذا لم يجد دليلاً انتقل إلى حكم شرعي، وهو البراءة الأصلية كما لو لم يجد خبر الواحد.
فيقال: نحن لا نشك في أن النصوص الشرعية قد بينت تفاصيل الأحكام، وتعرضت لكل واقعة يمكن أن تقع، وهو مقتضى كمال الدين، وإذا لم يوجد في الواقعة الجزئية نص خاص، وجدت قواعد كلية تعم أفراداً كثيرة من جزئيات المسائل.
ففي رد أخبار الآحاد إبطال لكليات وقواعد شرعية من جوامع الكلم الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ردها تعطيل وقائع كثيرة، يكون بيانها من موجب الرسالة، على أن البراءة الأصلية إذا كانت قبل ورود التكاليف، أما بعده فقد أصبحت الذمة مشغولة بالأحكام، فتكون البراءة أيضاً مظنونة بالنسبة إلى هذا الحكم، وتتقابل مظنونة بمظنونة، فيعمل بالأرجح.
قالوا: وأما الحجة الثانية: فإن التبليغ إنما يجب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه بالمشافهة أو بخبر التواتر، فمن بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قامت عليه الحجة، وإلا فهو معذور، كالبعيد الذي لم يتمكن من تبليغه ولو بالآحاد.
فيقال: هذا ليس بوجيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالدعوة والإنذار بما في استطاعته، كما حصل من اقتصاره على بث الدعاة في أقطار البلاد، واكتفائه بذلك، مما يدل على أنه مما قامت به الحجة وإن كان مظنوناً ظناً غالباً.
أما من لم يقدر على تبليغه كمن في الجزائر النائية فهذا يعذر حتى تبلغه الدعوة، وقد زال العذر بدعوة الصحابة ومن بعدهم، وتبليغهم جميع الشريعة إلى القاصي والداني.
قالوا: وأما الحجة الثالثة: فإن ظن صدق الراوي إنما يرجح كون العمل بخبره أولى، من غير إيجاب، كما في خبر الكافر والفاسق عند ترجح صدقه، من عدم وجوب العمل به إجماعاً.
قالوا: وهذا استعمال لقياس ظني في أصل من الأصول التي لابد أن تكون أدلتها يقينية قطعية.
فيقال: إذا عرف العاقل أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم تسبب الضرر عليه، وأن امتثال أمره مما يحصل له المصلحة، وجاءه أمر تترجح صحته، فعدم امتثاله والحالة هذه مما يلحقه به اللوم، وبتكرر ذلك لابد أن يحصل عليه ضرر، فالعقل السليم يوجب الحذر من أسباب الضرر.
ومثال ذلك: ما إذا علم العاقل تحريم قتل نفسه، وظن ظناً غالباً أن هذه الطعام مسموم، حرم عليه أكله، أو ظن أن هذا الجدار يريد أن ينقض لم يجز له الجلوس تحته.
وكثيراً ما يجعل الفقهاء الاحتياط مناطاً للوجوب.
أما قياسه على خبر الكافر والفاسق فغير مسلم، لأنه لا يوثق بخبرهما بمجرده، فإن اقترن به قرائن تغلب صدقه وجب العمل به اعتماداً على القرائن.
أما قولهم إن أدلة الأصول لا تكون ظنية، فغير مسلم، وقد نقضوه بأنفسهم، فكثيراً ما يثبتون قواعد وأحكاماً وأصولاً بأدلة ظنية أو خيالية.
القول الثالث: أن خبر الواحد يجوز العمل به عقلاً من غير وجوب:
وهذا قول أكثر المتكلمين.
قالوا: لأنه لم يلزم عنه لذاته محذور في العقل، واحتمال كونه كذباً أو خطأ غير مانع من التعبد به.
وقاسوه على ما وقع الاتفاق عليه من العمل بقول الشاهد والمفتي، مع كونه مظنونأً ومثلوا ذلك بما لو قال الشارع إذا طار طائر وظننتموه غراباً فقد أوجبت عليكم كذا، فإنه لا يلزم منه محال، حيث إن الظن شيء محسوس، يجده الإنسان من نفسه، فبمجرد وجوده يترتب الحكم.
الخلاف في دلالة السمع على
وجوب العمل بخبر الواحد
فقد حققنا فيما سبق أن خبر العدل يفيد العلم اليقيني، وعليه فإن من خالفه عناداً يكفر بعد إقامة الحجة عليه.
ولكن المتكلمين في هذا الموضوع كغيره اعتمدوا كونه ظني الثبوت، واختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: أنه لا يجب العمل به سمعاً:
وهو قول الجبائي ومن تبعه من المعتزلة في نفي جوازه عقلاً، وقاله أيضاً بعض من جوَّزه عقلاً كالقاساني من الظاهرية، وابن داود، وجمهور القدرية والرافضة.
وقد استدلوا بأدلة:
أولاً: من القرآن: كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(الإسراء:36)، وقوله حكاية عن أولاد يعقوب: (وما شهدنا إلا بما علمنا)(يوسف:81)، وقوله: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)(الأعراف:33)، وقوله حكاية عن الذين كفروا: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين)(الجاثية:32)، وقوله: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)(الأنعام:148)، ونحوها من الآيات.
فيقال: سبق أن استدل بهذه الآيات على إفادة الآحاد العلم اليقيني، وأن جعلها ظنية، مما تسلط به المعتزلة على ردها مطلقاً في الأصول والفروع، استدلالاً بهذه الآيات التي فيها النهي عن القول على الله بلا علم، وذم اتباع الظن.
ولكن المتكلمين القائلين بوجوب العمل بها مع كونها ظنية أجابوا عن هذه الآيات بعدة أجوبة.
1- فمنها: أن امتناع التعبد بخبر الواحد ليس عليه دليل قطعي، فمن نفاه فإنما عمدته الظن فيدخل في الذم المذكور في هذه الآيات.
2- ومنها: أن الظن المنهي عن اتباعه خاص بما المطلوب فيه العلم كالعقائد.
3- ومنها: أن القول بموجب الآحاد، والعمل به عمدته الإجماع، وهو دليل قطعي، ليس العمدة الآحاد التي هي ظنية.
4- وأحسن ما أجيب به على قولهم أن الظن المذموم أريد به التخرص والوهم الذي ليس له مستند، بخلاف الظن الراجح، فهو ملحق بالقطعي في وجوب العمل به، ولا يصدق على من قال به أنه قال على الله بلا علم.
ثانياً: من السنة:
رد النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين، لما سلم النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشى عن اثنتين، فقال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: (لم أنس ولم تقصر) فقال: بلى قد نسيت. فلم يعمل بقوله حتى سأل الحاضرين معه. متفق عليه.
فيقال: إنما رد عليه السلام خبر ذي اليدين لمخالفته لما يعتقده من إتمام الصلاة ولاستبعاد انفراده بمعرفة النقص دون غيره، ولا شك أن هذا مما يجعل الوهم يتطرق إليه، فبموافقة آخر له يزول الوهم.
ثم يقال: إنه عليه الصلاة والسلام عمل بخبره مع خبر أبي بكر وعمر، وهو لا يخرج بذلك عن الآحاد.
(ج) ومن الأدلة ما اشتهر عن بعض الصحابة من عدم قبول بعض الأخبار، فقد رد أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، حتى شهد معه محمد بن مسلمة ورد عمر خبره أيضاً في املاص المرأة حتى أخبره بذلك محمد بن مسلمة، أيضاً متفق عليه.
وفي الصحيح أيضاً أن عمر رد خبر أبي موسى في الاستئذان، حتى شهد معه أبو سعيد وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ورد على خبر ابن سنان الأشجعي في المفوضة وأمثال ذلك.
فيقال: إنما ذلك لعارض، وهو إمكان الخطأ، واستبعاد أن ينفرد عنهم مثل هذا الراوي، بهذه السنة الظاهرة.
فطلبهم لمن يشهد معه إنما هو من باب التثبت، وتقوية الخبر، ولا شك أن الخبر كلما كثرت نقلته ازدادت إليه طمأنينة النفس.
ألا ترى العالم يروي الحديث من خمسة طرق، ثم إذا سمع زيادة سادس أو سابع كتبها، لأن الخبر كلما تواتر كان أثبت للحجة، وأقطع للخصم، ولذلك قال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكني أردت أن أتثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجيب عن كل أثر بجواب خاص، يبين أن ردهم لذلك لم يكن عن شك، وإنما هو لأسباب مبررة.
على أن انضمام راو إلى آخر لا يخرجه عن كونها آحاداً كما لا يخفى.
القول الثاني: وجوب العمل يخبر الواحد سمعاً.
وهذا قول جمهور الأمة، بل عليه إجماع السلف قاطبة، وإنما حدث الخلاف فيه بعد ظهور علم الكلام، ولهذا كان عمدة المتكلمين في القول بوجوب العمل بها إنما هو الإجماع، مع أن الإجماع لابد له من مستند.
أما بقية أدلتهم مع كثرتها فقد أوردوا عليها اعتراضات صارت دلالتها من أجلها عندهم ظنية، مع أن المسألة من الأصول التي لابد فيها من قواطع الأدلة.
وإليك بعض ما أوردوه في هذا الباب من الأدلة السمعية، مع مناقشة اعتراضاتهم عليها:
1- النوع الأول: القرآن:
ودلالته في عدة آيات:
1- قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(التوبة:122) أمر تعالى الطائفة النافرة أو الباقية بالتفقه في الدين، وبإنذار قومها بما تفقهت فيه، وعلل الإنذار بحصول الحذر من القوم. والأمر يقتضي وجوب المأمور به، وهو التفقه ثم الإنذار الذي هو الإخبار بالأمر المخوف؛ والتعليل بقوله: (لعلهم يحذرون) ليس للترجي، فإنه محال في حق الله تعالى، لما يشعر به من عدم علمه بالعاقبة، بل هو للطلب فيفيد وجوب المطلوب، وهو الحذر اعتماداً على إنذار الطائفة، ولفظ الطائفة، يعم الواحد والاثنين، لقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)(الحجرات:9) فإنه يصدق على ما إذا اقتتل اثنان، وأيضاً فإن الفرقة أقلها ثلاثة. وقد أمرت كل فرقة أن يخرج بعضها، فظهر بذلك وجوب التفقه على هذه الطائفة، ووجوب إنذارها لقومها الذي يسبب الحذر الذي جعل الإنذار علة لحصوله.
وقد أوردوا على دلالة هذه الآية شبهاً:
(أ) فمنها: أن قوله: (لينذروا) ليس من صيغ الأمر الصريح، فلا يكون الإنذار واجباً، حيث لا أمر في الآية.
فيقال: لا شك أن الله أوجب التفقه في دينه، ثم بيانه للناس، وذم الذين يكتمون ما أنزل الله، في هذه الآية من الحض على التفقه والإنذار ما يؤيد ذلك.
ولما كانت صيغة (لينذروا) هنا ذكرت لتعليل الحض على التفقه دل على وجوب التفقه، ثم الإنذار وهو التخويف الموجب للحذر، إذ لا تخويف في ترك غير واجب.
(ب) ومنها: أن الأمر قد لا يدل على وجوب المأمور به.
فيقال: الأمر المطلق لا يصرف عن الوجوب إلا بقرينة، وها هنا دلت القرائن وهي أدلة وجوب البيان والنهي عن الكتمان - على أنه للوجوب.
(ج) ومنها: أن الإنذار أريد به التخويف من فعل شيء أو تركه، بناء على اجتهاد المخوف والتخويف خارج عن الإخبار.
فيقال: الإنذار كما قلنا الإخبار بمخوف يترتب على فعل أو ترك، والعلم بالمخوف أثر التفقه في الدين، فكان التخويف إخباراً عن شيء مخوف متلقى علمه عن الشرع.
(د) ومنها: أن الإنذار أريد به الفتوى، ونحن معكم على قبول المقلد خبر المفتي. ويرجح ذلك لفظ التفقه الذي هو شرط لجواز الإفتاء.
فيقال: الإنذار في الآية على عمومه لحذف مفعوله، فيشمل الإفتاء والإخبار بشيء من كلام الله ورسوله، أو ما استنبط منهما بما يوجب الحذر.
كما أن لفظ القوم عام فيشمل المجتهدين والمقلدين مع أن التفقه في اللغة لا يستلزم الإفتاء.
(هـ) ومنها قولهم: يلزم أن يخرج من كل ثلاثة واحد، ولا قائل بوجوبه.
فيقال: النص يقتضي ذلك ويقتضي وجوب العمل بخبر الواحد، وقد خص الأول بالإجماع على عدم الوجوب، ولا يلزم من تخصيصه تخصيص الثاني.
(و) ومنها: أن الآية في وجوب الإنذار، لا في العمل، وقد يكون الأمر بالإنذار ليحصل بخبر المنذر تمام حد التواتر.
فيقال: إذا سلم وجوب الإنذار فقد علل بحصول الحذر، فدل على وجوب الأمرين معاً.
فإن هذا التعليل نظير التعليل في قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)(البقرة:21)، ولا شك في وجوب التقوى. ولم يكن في الآية إشارة إلى تأخير الحذر حتى يحصل التواتر.
2- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(الحجرات:6) وفي قراءة (فتثبتوا) فلما أمر بالتثبت في خبر الفاسق دل على أن خبر العدل بخلافه، وإلا لم يكن لتخصيص الفاسق معنى، حيث يجب التثبت في الجميع.
وأيضاً فلو كان خبر الواحد لا يقبل مطلقاً لم يحتج إلى تعليل التثبت فيه بالفسق، لأن علة الرد موجودة فيه قبل الفسق، فكان التعليل تحصيلاً للحاصل.
وقد أورد على هذا بأنه استدلال بمفهوم المخالفة، وهو غير حجة أو هو حجة ظنية، والظن لا يكتفى به في الأصول.
فيقال: إن هذا المفهوم مما تؤيده الفطرة وعمل الأمة، من التفريق بين خبر العدل والفاسق حتى عند العامة، فالتثبت هنا معلل بالفسق، فبعدم الفسق لا يؤمر بالتثبت.
3- قوله تعالى: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(النحل:43) وأهل الذكر يعم الواحد والعدد، حيث لم يقل:سلوا عدد التواتر منهم. فيلزم الجاهل سؤال من وجده من أهل العلم. وتقوم عليه الحجة بخبر الواحد منهم. واعترض على هذا الدليل بما يأتي:
(أ) أن قوله (فاسألوا) ليست صيغة أمر. وإن سلم ذلك فلا تفيد الوجوب.
فيقال: إن صيغة: افعل ونحوها. من أصرح الصيغ في الدلالة على الأمر عند المحققين من أهل الأصول.
والأمر المطلق يفيد الوجوب، وإنما يصرف عنه لقرينة.
(ب) أن المراد هنا الاستفتاء من أهل العلم. ونحن نقول بقبول قول المفتي.
فيقال: ظاهر الآية أمر كل من جهل حكماً أن يسأل أهل الذكر - وهم أهل العلم بالشرع وأدلته فيعم سؤال المجتهد لغيره، وسؤال المقلد، حيث لا دليل على التخصيص.
(ج) ظاهر الآية الأمر بالسؤال الذي يحصل منه العلم بالمسؤول عنه؛ لأنه إنما أمر بالسؤال عند عدم العلم. فالتقدير:
اسألوا حتى يحصل لكم العلم بما لا تعلمونه. ولما كان خبر الواحد إنما يحصل الظن دل على أنه ليس هو المطلوب هنا وإنما المطلوب السؤال الذي يتم به العلم، وهو المتواتر.
فيقال: سبق أن استدل بالآية على أن خبر الواحد يفيد العلم، وحينئذ يبطل هذا الاعتراض؛ مع أن ظاهر الآية أمر كل من جهل حكماً أن يسأل عنه أهل العلم الذي يعم الجزم بالمعلوم والظن الغالب.
4- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)(المائدة:8).
والأمر للوجوب. وإذا تحمل الإنسان علماً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمن القيام لله والشهادة بالقسط إبلاغه والإخبار به، ووجوب ذلك عليه دليل وجوب القبول منه.
قالوا: الأمر لا يفيد الوجوب، ثم إن قدر أنه يفيده لم يجب على كل أحد القيام لله والشهادة بالقسط إلا إذا كان خبره مما يجب قبوله، ولا يجب قبول خبره إلا إذا كان قائماً لله شاهداً بالقسط،